بدر شاكر السياب
الأب الحقيقي للشعر الحديث
ولد بدر شاكر السياب عام 1926 في قرية صغيرة من قرى قضاء ابي الخصيب ،
هي قرية جيكور .لقد ترعرع الطفل في كنف الماء ، ذلك الكنف الذي اصبح فيما بعد
مجسدا في النبض الشعري للسياب .
بويب نهير كأنه ساقية ، يندفع من شط العرب ويعود اليه .
بويب تقف على صدره غابات النخيل وتمرق غير بعيد منه البواخر المصفرة
وتطفو عبر ضفتيه امسجة نبات اخضر وفقاقيع بلورية ترنو كأنها اجراس مهتزة،
وتدرج على صفحته الملساء قوافل البط العراقي ،
وفي سقفه الليلي تلمع الدرة الساحرة ، قمر الجنوب .
ليل ندي سناجل ، تقطعه اصوات غامضة لقوى كامنة في اعماقه السحيقة ،
خليط غريب من نداءات عرائس البحر وجنيات الظلام وصرير ابواب غرقى تحرس
وراءها كنوزها _ويفتح النهار بابه الذهبية فتعدو الشمس وتتشطى ويهتز
الرطب ويتساقط وترتعش زهرات الجهات الأربعة الختمية والآقاح والنرجس والخزامة .
هناك تبدأ الحياة سيرتها اليومية ـ_يستيقظ فقراء الماء يجذفون المشاحيف والبلام
ويجرون العاميات وهم يلفون الحبال على رقابهم ويهتفون بأصوات متحشرجة
من اجل أن تمتلئ شباكهم بالسمك _ ويستيقظ فقراء البر ،
يربطون اجسادهم الى جذوع النخيل ، يغرزون اقدامهم المتشققة بكربها
ثم يأخذون بالصعود الى قلبها كأن الأمر يشبه عناقا ازليا بين الإنسان الطفل
واخته المعمرة النخلة .
في السادسة من عمره توفيت امه بعد أن ولدت ولادتها الرابعة ،
إذانجبت طفلة مافتئت ان ماتت ايضا في العام نفسه .
وبعد ذلك بتسعة وعشرين عاما يرتدي السياب قناع امه الباحثة عن طفلتها الضائعة
ـ القصيدة السابعة " الام والطفلة الضائعة "
قفي ، لاتغربي ، يا شمس ، ما يأتي مع الليل
سوى الموتى _ فمن ذا يرجع الغائب للأهل
إذا ما سدت الظلماء
دروبا أثمرت بالبيت بعد تطاول المحل ؟
وإن الليل ترجف اكبد الأطفال من اشباحه السوداء
من الشهب اللوامح فيه ، مما لاذ بالزل
من الهمسات والأصداء
شعاعك مثل خيط اللابرنث ، يشده الحب
الى قلب ابنتي من باب داري ، من جراحاتي
كانت قرية جيكورفي ذلك الوقت بلا مدرسة .
وهكذا اختار الأب لابنه أن يذهب الى المدرسة الحكومية في قرية باب سليمان المجاورة
الى جيكور ـ وكان الطفل يذهب الى المدرسة كل يوم ماشيا بمحاذاة الماء
الذي جاء منه . ولما كانت الدراسة في مدرسة باب سليمان لا تتجاوز السنوات الأربع ،
اضطر الى الإنتقال الى مدرسةالمحمودية في ابي الخصيب وامضى فيها سنتين .
وفي ابي الخصيب ، التقى السياب لأول مرة بالشناشيل ، وهي شرفة خشبية ومزركشة ،
ذات نوافذ خشبية ملونة. وكانت بنات الجلبي ، وهو لقب يشبه لقب "الماركيز "
في اوربا ،يجلسن وراء تلك الشناشيل . واختار الفتى فتاته .
كانت رغبته أن يرى الشناشيل تتألق بنورها .
وكان حلمه أن يصل اليها ،
لكن ذلك لم يحن ـ القصيدة الثانية " شناشيل إبنة الجلبي "
وأرعدت السماء ، فطار منها ثمة انفجرا
شناشيل إبنة الجلبي ....
ثم تلوح في الأفق
ذرى قوس السحال ،وحيث كان يسارق النظرا
شناشيل الجميلة لا تصيب العين إلا حمرة الشفق
ثلاثون إنقضت ، وكبرت : كم حب وكم وجد
توهج في فؤادي !
غير اني كلما صفقت يدا الرعد
مددت الطرف ارقب :ربما ائتلق الشناشيل
فأبصرت إبنة الجلبي مقبلة الى وعدي !
ولم أرها _هباء كل اشواقي ، اباطيل
ونبت دونما ثمر ولا ورد !
وجاءت الصدمة الثانية وعمره تسع سنوات حين قرر والده أن يتزوج ،
ولم يكتفِ بذلك ، بل هاجر الى مكان آخر ليعيش حياته الخاصة .
وقد أثّرت هذه الحادثة وكذا وفاة امه كثيرا في نفسه .
وكفله جده الذي ارسله الى البصرة لإكمال دراسته هناك .
وفي عام 1943 إنتقل الى بغداد للألتحاق بدار المعلمين العالية .
وهنا يبدأ الضياع الكبير الذي ترك آثاره العميقة في مستقبله كله .
وهو في المدينة غريب ، هذا ما يحس به ، فيحلم " بالليالي المقمرات والنخيل"...
يحلم بالرحيل الى الريف .
وفي دار المعلمين العالية درس السياب في قسم الأدب العربي في العامين الأوليين ،
لكن إنتقل الى قسم الأدب الأنكليزي في العام الثالث .
وقد أتاحت له دراسته في هذا القسم التعرف على الأدب الأنكليزي ،
فتأثر به كثيرا وخاصة جون كيتس وشيلي، مما قاده الى الأنتقال السريع
من مرحلة الى اخرى .وفي عام 1949تخرج السياب بدرجة بكالوريوس في اللغة الأنكليزية
وآدابها ليعمل في التدريس ثلاثة أشهر ،ثم انتقل الى أعمال إدارية في الترجمة والصحافة .
كانت المدينة صدمته الثالثة. فقدان التوازن ،قروي يتيم ، نحيل ، دميم المنظر ،
مسكون الإرادات يعبر امام رجال مهندمين يتأبطون خصور النساء ،
وعجلات تدور امام الزمن وإعلانات مضيئة لراقصات وسجائر وسلال مليئة
بالأزهار الصناعية واطيار الفولاذ .
كان بدر غريبا في المدينة وغريبا في نفسه ، لكنه كان وهو ابن الفلاح ضد المدينة...
إنه يرفضها سياسيا لأنها تضطهده ، تحوله الى تابع مهان ،
ويرفضها اجتماعيا لأنها تحوله الى عبد محروم ...
فلم يكن بدعا أن يرفضها ثقافيا ، خاصة والدعوة الشيوعية " دليله "
والثقافة الغربية مادة دراسته .
وكلما تقدم السياب خطوة ، تراجع عشرا حتى كلّ وسقط في أعماقه منكفئا
الى وسطه القديم ، حيث الروح تسير الجسد .
عاد السياب الى جيكور ليتزوج زواجا تقليديا بفتاة من اقاربه ذات تحصيل متوسط ،
وكان ثمرة هذا الزواج ثلاثة اولاد .وجاءت الصدمة الرابعة .
اصيب بالسل وتعاون هذا المرض ومرض المدينة العصاب وعوزه لينتهوا به
الى اضطراب عصبي في العمود الفقري ،فشلّ في الظهر والساقين .
انتقل السياب من مستشفى الى آخر بين بيروت ولندن وباريس .
لم تره هذه المدن ولم يرها هو ، لكنه تحت وطأة الإحساس بها كان يطلق صيحات يائسة
هي ما يصطلح النقاد على تسميتها " بالمرحلة الذاتية " من شعر السياب .
وإن قاريء شعره في هذه المرحلة
(المعبد الغريق ، منزل الأقنان ، وشناشيل ابنة الجلبي )
يلمس كيف اصبحت الحياة في نظره ، موتا فقط .
" اهكذا السنون تذهب
اهكذا الحياة تنضب
احس انني اذوب ... اتعب
اموت كالشجر "
*** *** ***
ا
منقول