التقنيات الفنية و الجمالية المتطورة فى القصة القصيرة
بقلم :حسن غريب أحمد
تطورت القصة القصيرة عبر العقود الماضية فلم يعد أحد يجهل أنها مرت بمراحل متعددة ،
و فى كل مرحلة كان لها اتجاهات متعددة ، من ذلك مرحلة الريادة التى برز فيها
ثلاثة أعلام هـــــــــــم :
موبسان و تشيكوف و إدجار ألان بو ، و ان هذه المرحلة ترسخت فيها القيمة الفنية
الأساسية التى نهضت عليها كفن جمالي له مقوماته الخاصة ثم تعددت أطوارها بعد ذلك ،
فالإرهاصات الأولي تمثلت فى تلك المحاورات التى ظهرت فى روما فى القرن الرابع عشر ،
حيث كان يتردد على إحدى حجرات الفاتيكان نخبة من رجال البابا يتسامرون
و يقصون الحكايات المخترعة مما دعا كثيرا من الأهالي إلي التردد على هذه الحجرة
التى كانت تسمي {{ مصنع الأكاذيب }}
كان أشهر رواد الحجرة "" بوتشيو "" الذي دون طرائفه و نشرها فى كتاب أسماه
[[ الفاشيتيا ]] و قصص [[ الديكا ميرون ]] أو [[ المائة قصة ]]
التى ألفها الكاتب الإيطالي " بوكاتشيو "" و غيرها من المحاولات التى ظهرت
قبل هذا التاريخ فى الأدب العربي القديم و عمل على دراستها الدكتور الراحل
"" شكرى عياد "" تحت عنوان [ فن الخبر ] ، و قد نصبت دراسته على كتاب
[ المكافأة و حسن العقبي ] لأحمد بن يوسف أو غير ذلك مما عرض له فاروق خورشيد
فى كتابه "" فى الرواية العربية – عصر التجميع "" 0
فمن المعروف أن للعرب باعاً طويلاً فى هذا المجال فظهر ما سمي "" بالقصة الخبر ""
و "" القصة التاريخ " و "" النادرة "" و "" الحكاية الشعبية "
و قصص الحيوان "" و القصص الفلسفية "" و ظهرت ما يشبه المجموعات القصصية المعاصرة
مثل كتاب {{ البخلاء }} للجاحظ ، و { الفرج عند الشدة } للتنوخي ،
و { مصارع العشاق } لابن سراج ، و ما إلي ذلك مما أشار إليه يوسف الشاروني
فى كتابه """ القصة القصيرة "" نظرياً و تطبيقياً " كذلك فإن شكل المقامة القصصي
يوحي بأنها الجذور الأولي للقصة العربية 0
و يكاد ينعقد الإجماع على أن القصة القصيرة فن محدث و أن " إدجار ألان بور "
هو أبو القصة القصيرة ، و أن له ما يميزه فى الجانب الجمالي من قصصه حيث كان يقوم
على وصف المناخ الهادي الذي ينطلق فيه إلي عالم صاخب حافل بالتوتر و البؤس
مما يوحي بالغموض و الرعب ، و يعمل على تنمية الفكرة إلي أن يصل إلي النقطة الحاسمة ، فهو يري أن المغزي يجب أن يظل خافياً مستوراً ، و لا يري ضرورة مطابقة الفن للواقع بل انه ينبغي أن تتجه نحو تحقيق هذا الأثر و ألا تستخدم حكمه إلا إذا كانت موظفة فى هذا الاتجاه ، لذا كانت وحدة الانطباع مناط التحقق الفني للقصة القصيرة ، من هنا كان "" بور "" يولي مسألة الصيغة أهمية كبيرة ، و يؤكد على أحكام البناء ووحدته العضوية ، و يجب على كاتب القصة القصيرة أن يصمم معماره الفني قبل أن يبدأ ، و لم يكتب "" بور "" سوي سبعين قصة 00
أما "" جي دي موبسان " فيعتمد فى تشكيله للقصة القصيرة على الوصف القائم
على الملاحظة الدقيقة ، و نماذجه الإنسانية فى قصصه فى مجملها فلسفة متوترة مقهورة ،
وهى تنتمي إلي تلك الطبقات المسحوقة ، و يؤكد فى آرائه النظرية على تتبع الحدث
بحيث يفضي إلي الإبهام بالواقع ، و يميز بين الحقيقة الواقعية و الحقيقة الجمالية
الفنية المتطورة ، لذا كانت الأخيرة قائمة علي الاصطفاء و استبعاد التفاصيل
التى لا طائل تحتها ، و هو يبدأ بعرض المكان ، ثم يموضع شخصياته داخلها محدداً
سمات كل منها وموقعها من الخريطة الاجتماعية و ملامحها النفسية و الأخلاقية ،
ثم يسلسل الحدث مضمناً إياه بعض المفاجآت ، و يجعل منطق الشخصيات إشارة إلي طبيعتها
التكوينية و ينتهي بالحدث إلي نهاية مأساوية غالباً ، و هو ذو رؤية تشاؤمية
تتلخص فى قوله "" نحن جميعاً فى صحراء ما من أحد يفهم أحداً " 0 0
و قد أخذ على "" موبسان "" اهتمامه المفرط بالشكل و عنايته الفائقة بالأسلوب ،
و لكن لا أحد ينكر قدرته الفذة على الوصف ، فقصصه تعتمد على حاسة الإبصار
فى الدرجة الأولي فهو "" يأكل العالم بعينيه "" و قد ينصب وصفه على جزئية هامشية
يلفت إليها الأنظار بقوة ، و عرف عنه عنايته بالطبقات الدنيا و سخريته
من الطبقات الراقية ، و اختياره للحدث يقوم على العزل و التحديد ،
و لكي يفجر هذا الحدث و يجعل منه عالماً فسيحاً ، و الحدث عنده خط واحد
غير متعرج و لا مزدوج ، فهو يبدأ من اللحظة التى تكون فيها الشخصية قد وصلت
إلي ذروة التوتر ثم يمضي بها إلي التفجر و كل كلمة فيها تدفع باتجاه النهاية المقصورة ، و تتمحور قصصه حول رؤية جوهرية لذا تأتي متماسكة مترابطة ، ومنذ الجملة الأولي يقودنا إلي ظروف القصة و إلي الشخصية الرئيسية وموقعها متجهاً إلي لحظة التنوير ، فالهدف إحداث صدمة للقارئ عن طريق مفاجأة غير متوقعة ، أو حدث ليس فى الحسبان أو بضع جمل جافة قاسية ، فقصصه لها شكل الهرم ، و قد استقي معظم قصصه من واقع الحياة و الحوادث اليومية التى تنشرها الصحف ، و هى تضع المتلقي فى مواقف مثيرة للقلق ، فقد كان للأساطير و الحكايات الخرافية المنتشرة فى{{ نورماند }} موطن الكاتب دور فى خلق المناخ المخيف 0 0
أما "" أنطون تشيكوف "" الرائد الثالث من رواد هذا الفن فمميزاته
أنه بارع فى تشخيص الأفكار الغامضة و تحويلها إلي حقائق صارمة مقلقة ،
و يعمد إلي الكشف عن ظواهر جديدة فى الحياة ، و تشكيله للشخصيات يقوم على التمثيل
لا التقرير ، فكل حركة لها مغزاها و دورها فى الكشف عن طبيعة الشخصية ،
و هو يتعاطف مع شخصياته ميال إلي الدعابة ، و شخصياته بسيطة ليس لها
اى سمات بارزة و اهتماماتها حقيرة ، و هذا ما جعله نزاعا إلي السخرية
"" يصور غباء العاطلين و الخيانات و ارتشاء رجال الشرطة و بخل التجار ""
مركزاً على الجوانب السلبية المدمرة ، و هو صارخ الصراحة لا يتكلف و لا يتصنع
يفهم الواقع النفسي لشخصياته ، لم يهتم تشيكوف بالمقدمات الطويلة أو التحليلات
النفسية و المنطقية أو الصور الفاقعة ، بل ترك نماذجه تفضي بخصوصيتها
فى المواقف بعفوية تامة ، و عمد إلي التقاط المناظر الطبيعية بصورة خاطفة ،
و اتكأ على التلميح دون التصريح ، و لا يكتمل الأثر فى قصصه إلا باكتمالها
مع آخر جملة فيها 00
و قد عمل النقاد و الدارسون على استنباط الأصول الجمالية التى أرساها هؤلاء الرواد ،
و حاولوا صياغة نظرية فنية للقصة القصيرة ، و كان من أبرزهم "" أوكونور ""
فى كتابه {{ الصوت المنفرد }} الذي أعتمد عليه بصورة أساسية النقاد العرب
المعاصرون خاصة الدكتور الراحل " شكري عياد فى كتابه المهم
"" القصة القصيرة فى مصر """ الذي أشار إلي وحدة الانطباع و عدم تعدد الشخصيات
و الأمكنة و أن القصة فن الوحدة و العزلة معللاً ذلك بأن كاتب القصة القصيرة
فيه قوة الشعر فى الإحساس بالدراما لأنه فنان شديد الفردية ،
فنان تغلب عليه انطباعاته ، و لا تفرغ نفسه لتسجيل التفاصيل ،
و أن كل قصة قصيرة تعتبر تجربة جديدة فى التكنيك ،
و عناصر القصة القصيرة التقليدية كما خلص إلي ذلك عدد من النقاد مثل الدكتور
"" رشاد رشدي "" فى كتاب {{ فن القصة القصيرة }}
و الأستاذ فؤاد قنديل فى كتاب "" فن كتابة القصة "" 00
و الدكتور " الطاهر مكي " فى كتاب { القصة القصيرة } و دراسات و مختارات "
و " يوسف الشاروني " فى كتاب { القصة القصيرة نظريا و تطبيقياً }
و على شلش فى كتابه " فى عالم القصة " و غيرهم 00
إن ذلك يتمثل فى الحدث الذي ينشأ من موقف معين و يتطور حتى يبلغ الذروة ثم ينتهي
إلي ما يسمي """ لحظة التنوير "" التى يكتمل الانطباع باكتمالها ،
و ذلك فى نمو مطرد عبر هذا المثلث الذي يطلق عليه عادة
[[ المثلث الأرسطي ]] و رأس المثلث ليس من الضروري أن يكون بارزاً
و ظاهراً بل هو مفترض فى الغالب ،
و قد يأتي على شكل بؤر على منحنى نصف دائري ، و ربما اندفع الحدث نحو النهاية
كاندفاع حمم البراكين من الأعماق 0
*******************************
الحبكـــــة
أما العنصر الثاني فهو
الحبكة ::: التى تتضمن العقدة ، و هناك من لا يميز بين الحبكة و العقدة ،
و يعتبر أنهما معاً يمثلان النظام الذي اتبعه الكاتب فى ترتيب الحدث
بحيث يكون قائماً على عنصر السلبية و تجيب على سؤالين مهمين هما :::
- مـــــــاذا نعـــــــد ؟ - و لمـــــــــاذا ؟
و هناك من يري أن العقدة هى النقطة التى توجد فيها بؤرة الصراع 0 0
*******************************
الشخصيــة
و الشخصية (( العنصر الثالث )) ترتبط بالحدث ارتباطاً وثيقاً ،
و للشخصية أبعادها المتعددة : الجسمية
و النفسية و الفكرية و الاجتماعية وما إلي ذلك و لكن القصة القصيرة
لا تحتمل البحث فى هذه الأبعاد جميعاً بل يتركز فيها الضوء على بعد
أو أكثر وفقاً لنوع الانطباع الذي يرمي إليه كما أن الحديث عن الشخصيات الرئيسية
يدخل فى باب الحديث عن الرواية و ليس فى باب القصة القصيرة لأنها تنهض أساسا على
عدد قليل من الشخصيات 0 0
البدايـــة
و البداية فى القصة القصيرة بالغة الأهمية لأنها تحدد منذ البدء الحركة فى القصة ،
و البداية الوصفية الساكنة كثيراً ما تؤدي إلي قتل القصة فى مهدها ،
و يري تشيكوف أن القصة الجيدة هى التى تكون بلا مقدمات ، أما "" بو ""
فعول على بداية القصة بوصفها هى التى تحدد نجاحها أو فشلها 0 0
**********************************
""